رأي خاص

استقلالية دار الفتوى … مسار الإصلاح في لبنان يمر من هنا

بقلم : المحامي عبد الرحمن العمري

في ظل ما آلت إليه البلاد من أوضاع كارثية غير مسبوقة وانهيار تام على كافة المستويات على يد الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان، تتداعى بعض شرائح المجتمع اللبناني اليوم، إحساساً منها بالواجب الاجتماعي ووقوفاً عند مسؤولياتها، لمباشرة المساعي الإنقاذية والبدء بالحراك التغييري والمسار التصحيحي للأوضاع في البلاد

 

ولعل أبرز هذه المساعي تمثل في حراك الجسم القضائي اللبناني الذي انبرى أعضاؤه إلى مهمة انتزاع استقلالية القضاء من بين فكّي السلطة السياسية وذلك تطبيقاً للمبدأ الدستوري الأسمى القاضي بوجوب الفصل بين السلطات، وتمكيناً للجسم القضائي من أداء مهامه الوطنية باستقلالية وشفافية وحيادية، وحدّاً من تغوّل السلطة السياسية في الحكم

 

وبالوقوف عند مسعى السلطة القضائية المشرّف الرامي لانتزاع استقلاليتها من تدخل السلطة السياسية في شؤونها , فإنه لَمِن حق المواطن اللبناني اليوم التساؤل الجدّي حول موقف المؤسسة الدينية الإسلامية السنية في البلاد من مسألة استقلاليتها عن تأثير الطبقة السياسية عليها والحد من تدخّل الأخيرة بشؤونها.

ذلك أن هذه المؤسسة الموقرة هي لَأَوْلى شرائح المجتمع بالمناداة بهذه الاستقلالية وأجدرها لحمل هذا اللواء، حين كانت تعاليم الشرع الحنيف تحضّ على وجوب استقلال أهل العلم عن تأثير أهل الحكم، وكان مسار فقهاء الأمة الأوائل المقتدى بهم وعلمائها يزخر بمواقف طلب هذا الاستقلال والإصرار عليه وبذل الغالي والرخيص في سبيل ترسيخه

 

فخلافاً لمبدأ وجوب استقلال دار الفتوى الموقرة والمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الموقر عن أي تأثير للطبقة السياسية، نجد القانون اللبناني قد أعطى هذه الطبقة وأهل الحكم فيها مجالاً واسعاً من التدخل في شؤون هذه المؤسسة الدينية من خلال إعطاء السلطة السياسية حصة الأسد في مجلس الانتخاب الإسلامي وفي الهيئة الانتخابية لاعضاء المجلس الشرعي الأعلى والمفتين المحليين فضلاً عن العضوية الطبيعية في المجلس الشرعي الأعلى، الأمر الذي ينعكس بالضرورة تأثيراً مباشراً للطبقة السياسية على عملية انتخاب مفتي الجمهورية والمفتين المحليين وعلى تكوين المجلس الشرعي الاعلى وعلى سائر هرمية دار الفتوى، ويؤدي حكماً إلى منح الطبقة السياسية في نهاية الأمر مجالاً واسعاً من التدخل في شؤون المؤسسة الدينية الرسمية

 

وبما أن القوانين اللبنانية حين ضمنت للمواطنين نظام احوالهم الشخصية ومصالحهم الدينية في نص المادة التاسعة من الدستور، أناطت بدار الإفتاء من خلال المرسوم ١٨/١٩٥٥ مهمة تنظيم الشؤون الدينية للمسلمين وادارة مصالحهم واحوالهم الشخصية وادارة اوقافهم الخيرية وتشريع الانظمة في هذا المجال، وبذلك يكون الدستور اللبناني وكذلك القوانين المرعية الإجراء قد أقرّا دار الإفتاء سلطةً دينيةً، لها من الصلاحيات وعليها من الواجبات الوطنية والدينية ما يوجب منحها كامل استقلاليتها في ممارسة مهامها

 

وبما أن دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية بما تشكله من رمزية وطنية وتحتله من مكانة خاصة في صميم المشهد الوطني، تستأهل تجنيبها كل تأثير سياسي، تمكيناً لها من لعب دورها الرياديّ والجامع على الساحتين الوطنية والدينية

 

وبما أن ترسيخ مبدأ استقلالية دار الفتوى وضمان ابتعاد تأثير الطبقة السياسية عن المؤسسة الدينية الرسمية من شأنه ترسيخ مكانة هذه المؤسسة و إزالة أية غباشة لصورتها في عيون أبناء طائفتها، الأمر الذي سينعكس بالضرورة زيادةً في رصيد مصداقيتها وحسن سمعتها، وسيمكّنها بالتالي من أداء مهامها الدينية والوطنية على أفضل وجه، والتصدي لمهامها الرقابية كما ينبغي، ولعب دورها في لمّ شمل الطائفة وفي كبح الغلو وهزم دعاة التطرف وجمع كلمة الحركات الدينية على رأي الاعتدال

 

وبما أن قواعد الشرع الحنيف قد شدّدت على وجوب تمايز الجسم العلمائي عن أهل السلطة والحكم، حتى يكون هذا الجسم في مَنَعةٍ من تأثير أصحاب المصالح وفي منأى عن ضغط أهل السلطة، فيتصدى أهل العلم لمهمة تبيان الخير والدعوة إليه ومحاربة الفساد والنهي عنه دونما اعتبار لأية تأثيرات أو ضغوطات أو تدخلات سياسية تحول دون قيام هذا الجسم بدوره كما ينبغي له

 

لكل هذه الإعتبارات والأسباب الواردة أعلاه، نتقدم من الرأي العام بداية بدعوته لوعي أهمية الحد من تأثير الطبقة السياسية على المؤسسة الدينية الرسمية في البلاد كما ودعوته لتبني مطلب تأمين كامل استقلالية دار الفتوى ومجالسها المنتخبة كافة عن الطبقة السياسية

 

كما ونتقدم بهذا البيان من جانب العلماء الأفاضل والأئمة وحملة الإجازات الشرعية وأصحاب القرار الديني بكافة مناصبهم ومواقعهم في البلاد، لندعوهم إلى ضرورة تبني مطلب استقلالية دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية ومجالسها كافة عن تأثير السلطة السياسية، فأهل العلم والقرار الديني هم الأَوْلى بطلب هذه الاستقلالية والمناداة بها والعمل لها، وإنّ لهم في مساعي الجسم القضائي في لبنان اليوم لنيل هذه الاستقلالية الأسوة الحسنة في هذا المجال

 

كما ونؤكد على أن هذا البيان هو بمثابة اعلان انطلاقةٍ لمسارٍ كامل متكامل من النشاطات والندوات الفكرية والمحاضرات التوعوية للحث على طلب استقلالية دار الفتوى عن تأثيرات السلطة السياسية، وصولاً إلى السعي لإعداد وطرح مشروع قانون وفق الأصول والأطر القانونية يتضمن التعديلات اللازمة للمرسوم ١٨/١٩٥٥ بما يضمن هذه الاستقلالية المنشودة

 

 

حمل تطبيق الفجر الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى